الملك ذو الذّقن العوجاء

   كان لأحد الملوك ابنة رائعة الجمال. ولكنّها كانت كثيرة الافتخار بنفسها، متكبّرةً، لا ترى أحدًا يُساويها من النّاس، حتّى إنّ جميع من قصدوا بيت أبيها خاطبين، لم تجدهم مُلائمين ذَوقها أو جدِيرين بها، بل كانت تستقبلهم استقبالًا فاترًا وتردّهم بازدراءٍ مُغْضبين.

   في ذات يومٍ أَعَدَّ الملك وليمةً شائقةً دعا إليها كلّ الرّاغبين في الزّواج من ابنته. ولمّا جاؤوا وضع كلًّا منهم في مكانه المعدِّ له حسب منزلته وطبقته؛ فقعد في صدر المجلس الملوك وتبِعهم الأمراء الكبار، فالأمراء الصّغار فالشّيوخ فالفرسان ثمّ النبلاء.

   ولمّا استقرّ بهم المقام، دعا الملك ابنته، فحَضَرَت وعرّفها بهم واحدًا واحدًا، وخيّرها في أن تنتقي من بينهم عريسًا. ولكن لم يُعجبها أحدٌ، إذ وجدت في كلّ منهم عيبًا تكرهه:

   فواحدٌ ضخم الجثّة، وآخر جبّار القامة، وثالثٌ قصيرٌ كالقزم، ورابعٌ شاحب الوجه أصفره، وخامسٌ أحمر الوجه كأنّه الشِّقَّيق، وسادسٌ غير ممشوق القدّ. ومجمل القول إنّها قد وجدتهم أجمعين من ذوي العيوب.

   وكان بين المدعوّين ملكٌ طيّب القلب؛ ومع ذلك، فقد لفت نظرها أكثر من غيره وكان مَدْعاةً لسخريّتها اللّاذعة لأنّ ذقنه كانت عوجاء قليلًا؛ فما كان منها إلّا أن صرخت أمام الحاضرين:

-"أوه! إنّ ذقن هذا الرّجل تشبه منقار الغراب".

   ومنذ ذلك الوقت لُقّب بالملك ذي الذّقن العوجاء.

   سوى أنّ الملك الوالد، عندما رأى ابنته تسخر من جميع الزّوّار الخاطبين ولا تحترمهم، استولى عليه الغيظ، وأقسم أن ابنته الجّميلة ستتزوّج أوّل متسوّل يطرق باب قصره. بعد بضعة أيّامٍ دخل دار القصر رجلٌ فقيرٌ وأخذ يغنّي مُستجديًا الحسنة. وما كاد الملك يسمعه حتّى أحضره إليه، وكان مرتديًا ثيابًا رثّةً مُرقّعةً، فغنّى بحضرة الملك وابنته؛ ولمّا انتهى من الغناء استعطى صَدَقَةً صغيرةً فقال له الملك:

-"إنّ أُغنيتك أعجبتني كثيرًا لهذا سأجعل ابنتي زوجًا لك".

   ولمّا سمعت الابنة قول أبيها اضطربت وأجفلت، لكنّ أباها بادرها بقوله:

-"لقد أقسمت أن أُزوِّجَكِ أوّل مُتسوّل يطرق بابي؛ وإنّي لَوافٍ بقسمي ولا أحنث به".

لم يستطع أحدٌ أن يُقنع الملك بتبديل رأيه، فَنَفَّذَ ما أراد، فاستدعى راهبًا كتب عقد الزّواج وجَرَت حفلة العرس وصارت الأميرة، على أثرها، امرأة المُستعطي؛ ثمّ قال الملك لابنته:

- "يا بنيّتي، ليست العادة أن تعيش امرأة متسوّلٍ في القصور، فهلمّي والتحقي بزوجك إلى حيث يشاء".

   فتناول المتسوّل يدها وسار بها إلى مسكنه فتبعته مشيًا على قدميها. وعندما كانا مارّين في غابٍ من الغابات سألته:

- "لمن هذا الحرج العظيم"؟

فأُجيبت:

- "إنّه يخصّ الملك الأعوج الذّقن".

فقالت في نفسها، لمّا سمعت ذلك الاسم:

- "يا ليتني رضيت به زوجًا"!

   وسارا حتّى بلغا سهلًا فسيحًا يموج بالأعشاب الخضراء، فاستعلمت عن صاحبه قائلةً:

- "لمن هذا السّهل الأخضر الجميل"؟

   فأُخبرت:

- "يخصُّ الملك ذا الذّقن العوجاء. ولو أنّك قبلت أن يكون زوجك لكان هذا السّهل ملكك اليوم".

   فتنهّدت وقالت في نفسها:

- "آهِ ما أسوأ حظّي! يا ليتني لم أرفض ذلك الملك الأعوج الذّقن ولم أتهكّم عليه".

   ولمّا وصلا إلى إحدى المدن سألت أيضًا: 

- "لمن هذه المدينة الجميلة العظيمة"؟

   فقالوا لها:

- "إنّ صاحبها الملك الأعوج الذّقن ولو أنّك رضيت أن يكون بَعْلَكِ، لكنت الآن سيّدة هذه المدينة".

   فهزّت رأسها وقالت:

- "آه! مسكينةٌ أنا! يا ليتني اتّخذت ذلك الملك بعلًا لي".

   وعندما سمعها المغنّي الفقير تكرّر قولها وتتأسّف على إفلات ذلك الملك من يدها قال لها:

- "لا يليق بك أن تُظهري دائمًا رغبتك في أنّك تريدين زوجًا آخر دوني! وقولك هذا لا يُلائمني، ألا تجدينني أصْلُحُ لك"؟

   أخيرًا وصلا إلى أمام بيتٍ حقيرٍ صغيرٍ فقالت:

- "يا اللّه! ما أصغر هذا البيت! لمن قد يكون هذا المسكن الزّريّ".

   فأجابها زوجها المغنّي:

- "إنّه بيتي وبيتك وسنقطنه معًا".

   واضطُرّت أن تخفض رأسها لتستطيع الولوج إليه، لصغره ووطوءَة سقفه. فسألته الأميرة حينذاك:

- "أين الخدّامون أيّها الرّجل"؟

   فقال لها المتسوّل:

- "تسألين عن الخدم؟ عليك أن تخدمي نفسك بنفسك وتُعني بشؤون المنزل دون مساعدة أحدٍ. هلُمّي إلى النّار، أوقديها وضعي عليها الماء لتغلي حتّى تُحضّري لي عشائي، إنّني تعبٌ".

   لكنّ الأميرة كانت تجهل أصول تدبير المنزل والطّبخ، فلم تُحسن صنع شيءٍ حتّى اضطُرّ زوجها المتسوّل نفسه أن يهتمّ بالأمر ويساعدها. ولمّا تناولا طعامهما الهزيل لجآ إلى فراشهما وناما.

   وفي الغد أيقظها الزّوج باكرًا وأمرها بتدبير شؤون بيتها. وعاشا مدّةً قصيرةً من الزّمن على هذا المنوال حتّى نفذ  أخيرًا ما عندهما من زادٍ ومالٍ؛ عندئذٍ قال لها بعلها:

- "أيّتها المرأة، ليس بوسعنا أن نواصل عيشنا في مثل هذا الكسل؛ ما عليك بعد اليوم إلّا أن تَحيكي سلالًا نبيعها،  ونشتري بثمنها حاجاتنا الضّروريّة".

   وذهب إلى الحقول وأتاها برزمة قضبانٍ وقصبٍ فأخذت الزّوجة في الحياكة ولكنّ القضبان الخشنة خدّشت بشرة يديها النّاعمتين، فقال المتسوّل مُشفقًا عليها:

- "أرى أنّ هذا العمل قاسٍ لا يوافقك، جرّبي أن تغزلي، فلعلّ ذلك يكون أكثر ملاءمةً لك". فعملت بقوله وأخذت في الغزل؛ غير أنّ الخيطان جرحت أصابعها الطّريئة وأدمتها أيضًا، فقال لها الرّجل:

- "إنّك لا تصلحين لشيءٍ، ولقد أصابني غبنٌ شديدٌ من زواجي بك. إنّني سأجرّب تجارة الخزف، وسوف تذهبين لبيعه في أسواق المدينة المجاورة لنا".

   فافتكرت في نفسها وقالت وهي تتألّم:

- "لو رآني أتباع أبي ورعاياه أبيع الفخّار في الأسواق، سيسخرون منّي ويُعيّرونني! ولكنّها مع تفكيرها هذا، لم تستطع أن ترفض طلب زوجها بل نفّذت إرادته، لأنّها، إن لم تفعل، تعرّضت إلى خطر الهلاك من الجوع".

   نجحت تجارتها في أوّل الأمر وراجت، إذ أقبل النّاس على شراء بضاعتها، ودفعوا لها الأسعار الّتي كانت تطلبها، لظرافتها ونوعها الجّيد؛ فعاشت هي وزوجها ممّا يكسبان بعرق جبينهما.

   وأخيرًا ذهب الرّجل ليشتري بضاعةً جديدةً؛ أمّا الزّوجة، فاستقرّت في إحدى زوايا السّوق، حيث عَرَضَت الجرار والأباريق والأكواز وغيرها من الخزف، ولسوء الحظّ، مرّ فجأةً فارسٌ فعدا حصانه على الفخّار وكسّره تكسيرًا، فذُعرت البيّاعة من عمله القبيح وصرخت:

- "ماذا جرى لي؟ ياويلي! وما سيقول زوجي"؟

   ثمّ قفلت راجعةً إلى بيتها الحقير ورَوَت لبعلها المصيبة الّتي حلّت بها، فأجابها قائلًا:

- "وما أغرب تفكيرك أيضًا! فهو الّذي دفعك إلى أن تذهبي بخَزَفِكِ فتجلسي في طرف الشّارع مُعرّضةً خزفك لخطر المارّة"!

- "أصبحتُ موقِنًا الآن أنّك عاجزةٌ لا تصلحين لأيّ عملٍ؛ وقد أرسلت إلى القصر من يُخبرني إذا كانوا محتاجين فيه إلى خدّامةٍ، فوُعِدْتُ أنّهم سيستخدمونك؛ وهكذا تحصّلين عيشك في خدمة ذلك القصر".

   وبالفعل، فقد صارت الأميرة خدّامةً تقوم بأشقّ الأشغال وأطولها، وفي كلّ مساءٍ، كانت تجلب لزوجها المآكل في أوعية تشدُّها إلى زنّارها.

   في ذاك الوقت كان سكّان القصر يُحضّرون الولائم الفخمة للاحتفال بعرس ابن الملك البكر. فدفع الفضول أو حبّ الاستطلاع الإمرأة المسكينة إلى الوقوف بباب البهو الكبير. ولمّا شاهدت الأنوار المتلألئة الباهرة والجماهير المحتشدة مكتسيةً أبهى الملابس، لعنت كبرياءها المشؤومة الّتي سبّبت لها هذه الآلام وجعلتها تتدهور إلى هذا الدّرَك.

   وكان خدم القصر يناولونها مرّةً بعد مرّةٍ بعض فضلات المآكل الشّهيّة فتضعها في الآنية بقصد حملها إلى زوجها الفقير.

   في ذات يومٍ، بينما هي على تلك الحال المؤلمة، دخل ابن الملك بَغْتةً، لابسًا المخمل والحرير وتزيّن عنقه قلائد الذّهب الوهّاج، ولمّا أبصر الإمرأة الشّابة الجميلة قرب الباب، مدّ لها يده وطلب مراقصتها، ولكنّها أبت عليه ذلك ونفرت منه مرعوبةً، مجفِلةً، لأنّها عرفته: الملك ذا الذّقن العوجاء نفسه الّذي جاء يخطبها إلى أبيها، فرفضته بازدراءٍ. ولكنّها أُجبرت أن ترضخ لطلبه وتَبِعَته؛ إلّا أنّ زنّارها انقطع وأفلت من وسطها وتدحرج الإناءان على الأرض فانكسرا، وسال منهما الحساء وانتثر فتات الخبز هنا وهناك. وتعالت الضّحكات العديدة والقهقهات في كلّ زاويةٍ ترافقها لهجة السِّخْرِيَّة. فامتقع لون وجهها بحمرة الخجل، وودّت لو أنّ الأرض خَسَفتْ على عمق ألف قدم وابتلعتها وأراحتها من الحياة؛ ثمّ قفزت صوب الباب للهرب، غير أنّ رجلًا أوقفها على سُلّم القصر وأمسك بيدها وأعادها إلى محلّها. وعندما التفتت إليه، عرفت أيضًا أنّه الملك الأعوج الذّقن نفسه، فقال لها بصوتٍ رقيقٍ لطيفٍ:

- "لا تخافي شيئًا! إنّ المغنّي الّذي أتى بكِ إلى بيته الحقير هو أنا، وأنا هو وقد تنكّرت بزيّ متسوّلٍ احتيالًا للحصول عليك. وما ذلك الفارس الّذي داست سنابِك حصانه خَزَفك وآنِيَتَكَ إلّا أنا. وقد عملت كلّ ذلك ودبّرته لإضعاف روحك المتكبّرة ولأعاقبك على ازدرائك إيّايَ يوم استقبلتني في قصر أبيك".

   فبكت بكاءً مرًّا وقالت:

- "إنّني مخطئةٌ نحوك؛ ولا أَراني جديرةً أن أكون زوجةً لك".

   لكنّه أجابها:

-"تَعَزَّي ولا تحزني، فإنّ أيّامك السّود قد انتهت، والآن سنحتفل بزواجنا الميمون".

   فأُلبست أفخر الملابس وضُربت البشائر وقُرعت طبول الفرح وعلى الأثر جاء أبوها، تواكبه حاشيته لتقديم التّهاني بمناسبة اقترانها بالملك ذي الذّقن العوجاء.

   وكانت حفلةً باهرةً يتمنّى حضورها كلّ واحدٍ من البشر.

                                      يوسف س. نويهض

                                     مقتبسة – بتصرّف -